نفحة من بستان الوحي /الشاعر عبدالرحمن العشماوي
قام فيها الصَّباحُ بعد المساءِ **** فبنى فوقها حصون الضياءِ
وأدار السِّياج حول رُباها **** فحماها من سَطْوةِ الدُّخلاءِ
ودعا نحوها السَّحاب فأعطى **** ماءه صافياً بدون غثاءِ
وَحَبا الأمن للعصافير حتى **** أمتعتْ روضَها بشدو الصفاءِ
لم يدعْها في غَيْهب الليل، لكنْ **** سكب النورَ فوقَها من حراءِ
ودعاها إلى الشموخ فسارتْ **** تتسامى بخاتم الأنبياءِ
لم يكنْ صوتُه سوى صوتِ حقّ **** أسمع الغافلينَ أحلى نداءِ
حينَها ازدانتِ الجبالُ وأحيا **** صوتُه العَذْبُ بَهْجَةَ الصحراءِ
حينَها صارت العقيدةُ أُماً **** وأباً للعبيد والضعفاءِ
دارت الأرضُ دورةً أيقظتْها **** من سُباتِ الجهالةِ الجَهْلاءِ
واستدار التاريخُ لما رآنا **** ننقش النور في يدِ الجوزاءِ
وانتشى المجدُ حين أصغى إلينا **** نتحاكى بقصَّةِ الإسراءِ
كبرياءُ الطُّغاةِ ماتت لأنا **** قد سجدنا لصاحب الكبرياءِ
ولأنَّ القرآن نَبعُ يقينٍ **** ترتوي منه أنفسُ الأتقياءِ
حين تُتلى آياتُه يَتجلَّى **** كلُّ معنىً من التُّقى والنَّقاءِ
تلتقي الأرضُ بالسماءِ لقاءً **** لم تَر الأرضُ مثلَه من لقاءِ
رفع الناس من عبادةِ صخرِ **** وترابٍ إلى مقام السَّماءِ
خرجوا من براثنِ الكفر لمَّا **** بَدَأ المصطفى بكشف الغطاءِ
نشر الحبَّ فوقهم فاستظلُّوا **** واستراحوا من قَسْوة الرَّمضاءِ
واستلذُّوا البلاءَ فيه احتساباً **** إنَّ في الحقِّ لذَّةً للبلاءِ
مََنْ أبو جهلَ، مَنْ أميَّةُ إلاَّ **** أنفسٌ غُذِّيت بشرِّ غذاءِ
صنعوا تمرَهم إلهاً أراقوا **** عند رجليه دمعةَ استجداءِ
ثمَّ جاعوا فحوَّلوه طعاماً **** فتأمَّل عبادةَ الأهواءِ
إنَّه الكفرُ يجعل الحرَّ عبداً **** ويُريه الأَمام مثلَ الوراءِ
يا رياضَ القرآنِ فيكِ احتمينا **** من لظى القيظ أو صقيع الشتاءِ
ووجدنا الأمانَ من كلَّ خوفٍ **** ولقينا الشِّفاءَ من كلِّ داءِ
يا رياضَ القرآن، نهرُكِ يجري **** صافياً في مشاعر الأَتقياءِ
لم يزلْ يمنح النُّفوسَ ارتقاءً **** عن مَهاوي الرَّدَى وأيَّ ارتقاءِ
لم يزلْ يمنح الصدور انشراحاً **** ويُريح القلوبَ بعد العَناءِ
يا أبا خالدٍ أرى النور يَهمي **** صافياً، من تلاوة القرَّاءِ
إنَّه الوحي سرُّ كلِّ نجاحٍ **** وفلاحٍ، ومُؤْنسُ الغرباءِ
حينما يلتقي كتابٌ كريمٌ **** بسيوفٍ للحقِّ ذاتِ مَضاءِ
يصبح العدلُ منهجاً للبرايا **** وغصوناً ممدودةَ الأَفياءِ
إنَّه الوحي، يصرف الشرَّ عنَّا **** ويَقينا تسلُّط الأَعداءِ
يا أبا خالدٍ، أرى القدسَ تبكي **** لها الحقُّ في شديد البكاءِ
كبَّلَ المعتدي يديها ونادى **** كلَّ لص، وقال: هذا فنائي
فخذوا كلَّ ما أردتم وذوقوا **** مُتْعة الشُرْب من دموع النساء
واستلذُّوا بقتل طفلٍ بريءٍ **** وبما تشربونه من دماءِ
أشعلوا بالرَّصاص ثوب فتاةٍ **** سجنتْ فيه موجةَ الإغراءِ
وانثروا بالرَّصَاص جَبْهةَ شيخٍ **** واستلذُّوا بمنظر الأَشلاءِ
إنَّه الغدر من سجايا يهودِ **** منذ تاهوا في لجَّة الصحراءِ
حاجةُ القدس أنْ ترى جيشَ حقٍ **** حافظاً للكتابِ صَلْبَ البناءِ
حين يتلو الأنفالَ يفتح منها **** أَلْفَ بابٍ إلى طريق الفداءِ
يرفع الحقَّ في سراديب عصرٍ **** لم يزلْ يستبيح كلَّ الْتواءِ
يا أبا خالدٍ، هنا البذلُ بَذْلٌ **** وهنا يرتقي مقامُ العطاءِ
وهنا يصبح السَّخاءُ سخاءً **** تتسامى به معاني السَّخاءِ
أنتَ أََجْرَيْتَ ها هنا نهرَ خيرٍ **** وجزاء الرحمن خيرُ الجَزاءِ
إنَّ أقوى جيشٍ على الأرض جيشٌ **** غُذِّيَتْ روحُه بوحي السَّماءِ