فيوضات قلب مشرف
عدد الرسائل : 477 العمر : 38 العمل: : أستاذة لغة عربية القارئ المفضل : أحمد العجمى - ماهر المعيقلى - سعد الغامدى تاريخ التسجيل : 26/02/2010
| موضوع: بيت وبيت كلمات رائعة السبت 16 أبريل 2011, 10:52 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
بيت وبيت
نتكلم اليوم عن نموذجين لبيتين مختلفين تمام الاختلاف في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيت الأول: بيت أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم:
وهو بيت آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من إيذائه. وأبو لهب هذا هو أحد أعمام النبي
صلى الله عليه وسلم. ونتساءل لماذا خُص أبو لهب من بين سائر الكفار من صناديد قريش بالتوعد
بالعقوبة في القرآن الكريم؟ والسبب في ذلك هو شدة معاداته له صلى الله عليه وسلم، فقد كان
كثير الأذية والبغض له، والازدراء به والتنقص له ولدينه.
فمع بداية مرحلة الدعوة الجهرية، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول
آية ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ ﴾ ] الشعراء: 214 [، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف،
فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلاً. فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادره أبو لهب
وقال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة،
وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن
يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس.
ثم دعاهم ثانية وقال: " الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ". ثم قال: " إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول
الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما
تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا ".
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون،
وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أُمرت به. فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك،
غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا
على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا.[1]
ثم بعد أن تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلّغ عن ربه، صعد النبي
صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا، ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم
قبيلة قبيلة.
فلما سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم
يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش. فلما اجتمعوا أخذ يدعوهم
إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله ، فخص وعم. ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يُذكر
عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال: تبا لك
سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت فيه: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ ] المسد: 1 [.[2]
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز،
يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.[3] وقد رُوي ما يفيد أن أبا لهب كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه.[4]
ولما بدأت قريش في التنكيل بالمسلمين، لم تستطع في بادئ الأمر الاجتراء على رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ولكن مع استمراره صلى الله عليه وسلم في دعوته، بدأت في مد يد الاعتداء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشويه والتلبيس
والتشويش وغير ذلك. وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان
أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله،
وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل
أن تفكر فيه قريش.[5]
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم
قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما. ولما مات عبد الله -
الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وذهب إلى المشركين يبشرهم
بأن محمدًا صار أبتر.[6]
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، فكان بيته ملصقا ببيته.
كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق:
كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية،
وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى - وكانوا جيرانه - لم يُسلم منهم أحد إلا
الحكم بن أبي العاص. فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم
يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به
منهم إذا صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى
يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: " يا بني عبد مناف، أي جوار هذا "؟ ثم يلقيه في
الطريق.[7]
ولما أبرمت قريش قرارها بإهدار دم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو لهب من بين أكابر مجرمي
قريش الذين قضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة، بل وكان من النفر الذين اختيروا
لتنفيذ تلك المؤامرة اللئيمة.
فماذا كانت العاقبة؟! رماه الله بالعدسة[8] فقتلته!! فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا، ما دفناه حتى انتن.
وكانت قريش تتقي هذه العدسة، كما تتقي الطاعون. حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما!
ألا تستحيان أن أباكما قد انتن في بيته لا تدفنانه؟ فقالا: إنما نخشى عدوى هذه القرحة!! فقال:
انطلقا، فانا أعينكما عليه! فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه
إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رجموا عليه بالحجارة.[9]
وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، والتي سماها
المسلمون أم قبيح من كثرة ما تؤذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تقل عن زوجها
في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى
الله عليه وسلم، وعلى بابه ليلاً. وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس،
وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفها القرآن بحمالة
الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس
في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ[10] من حجارة، فلما وقفت عليهما
أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟
قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة. ثم قالت:
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ فقال: " ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني ". وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها: أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر! هجانا صاحبك. فقال
أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمُصدَّق.[11]
فماذا كانت نهايتها؟ كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة[12] من الحسك[13] فتطرحها في طريق
المسلمين. فبينما هي حاملة ذات يوم حُزمة، إذ أَعْيَت، فقعدت على حجر لتستريح. فجُذبت من خلفها،
فهلكت. خنقها الله بحبلها!! وقيل: لما كانت تعيّر النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل
تجعله في جيدها من ليف, فخنقها الله جل وعز به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.[14]
ومما تروي لنا كتب السنة والسيرة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: أنا أكفر بـ ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ ] النجم: 1 [، وبالذي ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ ] النجم: 8 [ .
ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق
لم يقع عليه. وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: " اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك ".
فماذا كانت عاقبة ذلك؟ لقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم!! فقد خرج عتيبة إثر ذلك
في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول:
يا ويل أخي هو والله آكلي، كما دعا محمد علىّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام. ثم جعلوه بينهم،
وناموا من حوله، ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم[15] رأسه.[16] وانظر رحمك الله ...
لما تفل عتيبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى إليه الأسد، فشم وجهه، ثم
ضغم رأسه!! لم يأكله من يديه أو رجليه، وإنما رأسا برأس!!![17] والبيت الثاني: بيت أبو بكر الصديق:
لما بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، كان من الطبيعي أن يعرض الرسول
صلى الله عليه وسلم الإسلام أولاً على ألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى
الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير،
ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح. وكان من أوائل من دُعوا إلى الإسلام، صديقه الحميم أبو بكر الصديق،
الذي أسلم في أول يوم للدعوة.[18]
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً ذا خلق ومعروف.
وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو من يثق به من
قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن
بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.[19]
واشترى أبو بكر رضي الله عنه الكثير من الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم
جميعًا. وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال: أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا لمنعوك.
قال: إني أريد وجه الله . فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه. قال تعالى:
﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ اْلأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ ] الليل: 14 - 16 [ ،
وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته، ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *
وَمَا ِلأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إَِّلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ ] الليل: 17 - 21 [ ،
وهـو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.[20]
وأُوذي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا كثيرا من كفار قريش بسبب إسلامه، وبسبب
منافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أشد المواقف التي صنعها المشركون
بالنبي صلى الله عليه وسلم، كان بجانبه صديقه الحميم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط،
فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟[21]
ومن أكثر مواقف الصديق رضي الله عنه عظمة مع النبي صلى الله عليه وسلم، موقفه معه
هو وأسرته أثناء الهجرة.[22] فبعد أن أذن الله تعالى إلى نبيه بالهجرة، ذهب النبي صلى الله
عليه وسلم في الهاجرة - حين يستريح الناس في بيوتهم - إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم
معه مراحل الهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في
نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة
لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له فدخل. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لأبي بكر: " أخرج مَنْ عندك ". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.
قال: " فإني قد أذن لي في الخروج ". فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم ".
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل. وقد استمر في أعماله اليومية
حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش.
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، وأتى إلى دار رفيقه - وأمنّ الناس عليه في صحبته
وماله - أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على
عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي
ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً، فسلك الطريق الذي
يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة
أميال، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر، وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى،
ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشى في الطريق
على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه. وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل،
وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل، عُرف في التاريخ بغار ثور.
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني
دونك! فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما
رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ووضع رأسه في حجره ونام. فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
" ما لك يا أبا بكر "؟ قال: لُدغت، فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب
ما يجده.
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام
شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان
به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة
تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة،
علهم يظفرون بخبرهما.
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم
أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدرى والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده
- وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن
يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار،
ولكن الله غالب على أمره. روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى
الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم. فقلت: يا نبي الله! لو أن
بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: " اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما "، وفي لفظ:
" ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ".
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق
بينه وبينهم إلا خطوات معدودة. وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش،
وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وتستمر أيادي الخير الممتدة من أبي بكر، وتستمر مواقفه العظيمة في خدمة الإسلام ورسول
الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وقد جاء في الحديث الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ
عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " مَا ِلأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إَِّلا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا
خَلاَ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي
مَالُ أَبِي بَكْرٍ. وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً َلاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ ".[23]
هذه بعض من مواقف أبي بكر الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم. فماذا كانت مواقف أهل بيته
من النبي صلى اله عليه وسلم ودعوته؟ قد علمنا فيما مضى الدور العظيم الذي لعبه عبد الله بن أبي بكر
في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم، ثم يتسلل في الليل لينقل هذه الأخبار
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيه. ويبيت عندهما، ويخرج من السحر، فيصبح مع قريش.[24]
وبنته أسماء بنت أبي بكر، ذات النطاقين، وهي أسن من عائشة. سماها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لما هاجرا، فلم تجد
ما تشدها به، فشقت نطاقها وشدت به السفرة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وهي زوجة الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب.
هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أول مولود
يُولد في الإسلام بعد
الهجرة. بلغت مائة سنة، ولم يُنكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن.[25] عاشت إلى
أن ولي ابنها عبد الله الخلافة، ثم إلى أن قُتل، وماتت بعده بقليل.[26]
وزوجه أم رومان، التي أسلمت مبكرا وبايعت[27]، ثم هاجرت إلى المدينة. وهي والدة عبد الرحمن
وعائشة. توفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم
قبرها، واستغفر لها وقال: " اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك ".
وقيل: لما دُليت أم رومان في قبرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن
ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه ".[28]
وغني عن البيان بنته الأخرى، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين، عائشة
رضي الله عنها وأرضاها، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة.
وهي أعلم النساء، كنّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عبد الله، وكان حبه لها
مثالا للزوجية الصالحة. ***** وبعد ... فهذين نموذجين لبيتين تفاعلا مع النبي صلى الله عليه ودعوته. ويمثل هذان البيتان
طرفي نقيض في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم. وتتفاوت باقي البيوت في التعامل
مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في نطاق هذا الإطار. فانظر أخي وحبيبي في الله،
أي بيت تود أن يكون بيتك!! هل تريد أن يكون بيتك مثل بيت أبي لهب أو قريبا منه، أم
تريد أن يكون بيتك دائرا في فلك بيت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
..........................................................
منقول من موقع صيد الفوائد | |
|